عندما أتدبّر أمر أحزابنا" كلها" (ولا أستثني أحدا كما قال مظفّر النواب)، أجد نفسي مدفوعا إلى مقايسات وتشبيهات لا يحتاج المرء لفهمها الى زاد بلاغي أو معرفي كبير. أنطلق دائما من التساؤل"العفوي" التالي: أمام "العطالة" أو القصور في مستوى المقاربات والأداء اللذين يحكمان الخطابات السياسية يمينا و يسارا و"وسطا"، وأمام غياب توحّد "إرادي" من طرف الفاعلين الاجتماعيين حول رمزية عليا أو أرضية ثقافية مشتركة ،هل يوجد اختلاف حقيقي في "الرمز"،أم هو صراع "ظاهري" لا يتجاوز مستوى الصراع حول"احتكار" نفس "الرمز "الثقافي الذي مازال حاضرا بصفاته دون اسمه ، بوعيه دون مفاهيمه، بروحانيته دون حاضنتها المؤسسية؟؟؟
وهنا أتقدم خطوة على درب المتاهة لأسأل: هل تغيّرت البنية العميقة لأحزابنا (حتى تلك التي تدّعي التقدمية او الحداثة الراديكالية) عن بنية "الزاوية" بلغة المغاربة و"الخانقاه" بلغة أهل المشرق؟ هل فعلا نحن في "زمن ثقافي" حداثي قد "تعلمنت" منظماته"المدنية" لتخلف "تنظيماته الأهلية" في الوساطة بين الفرد والدولة ؟ أحسب أنه لو أردنا معرفة الهرمية "التنظيمية" لأحزابنا "كلّها" فما علينا إلا ّ قراءة أي كتاب في مراتب "الولاية"- خاصّة في مرحلتها الطُّرقية- ،فأصحاب "المراتب الخفية" في أحزابنا السياسية (وهي المقابل المفهومي لـ"حكومة الظل" السلطوية) هم يشكّلون حقيقةً "عقلنا السياسي" ، ويهيمنون على تمظهراته المتحكمة في المجال العام. مازال الوليّ "المتأبّد" على عرش" طريقته"، هو "نهاية تاريخ" السياسي، و مازال "الوليّ المتسيّس" هو ما قبل تاريخ"السياسي" الذي لم ينبثق بعد
في ثقافتنا العربية الإسلامية ( فهل يختلف "الزعيم السياسي" المعارض الذي لم يترك "عرش المعارضة" في حزبه منذ عقد أو عقدين عن أي دكتاتور أو عن أي وليّ"صالح" قد يرى مريدوه في بعض مخاريقه و شطحاته ضربا من ضروب "المعرفة العليا" التي لا تصلح للعوام من أمثالهم ، وهل ننتظر ممّن لم يزهدوا في"كاريزما المعارضة" ورساميلها"الرمزية" أساسا، أن يزهدوا في "هيبة السلطان" و رساميلها المادية ؟). مازال المتحزّب عندنا يتعامل مع "شيخ" طريقته (زعيم حزبه) بمنطق التأويل"المطمئنّ"،ذاك الذي لخّصه أحد النحاة بقوله: "من توسّع في لغة العرب لم يكد يُلحّنْ فيها أحدا". وبالطبع فإنّ المريد لا يشغله عرب و لا عجم، بل كل همّه "تصحيح"كلام شيخه "السالك"في بداهات العقل و السلوك"النضالي" أو في يقينيات الايمان و "السلوك الشرعي".لم يكن بناء الدولة الوطنية إلاّ علمنة"ظاهرية" لثالوث" الشيخ و المريد و الزاوية : فماذا كان "الزعيم الملهَم" و القائد الفذّ غير شيخ الطريقة الأعلى، و ماذا كان الحزب غير زاويته حيث تُخنزل رايات الطرق كلها في راية واحدة (علم البلاد)، ولكنها راية لا معنى لها إلا بربطها ب"صورة" القطب الأعظم المهيمنة على مجمل الفضاء"العام" ، حيث تسود قداسة لا يُدنّسها إلاّ انبثاق أي خطاب ينازع الزعيم" معارفه اللدنية" وسلطته الأبوية ، و هل كان "المواطن" شيئا يتجاوز في قيمته"الوظيفية" مستوى المريد الذي عليه أن يكون بين يدي شيخه( الزعيم) "كالميت بين يدي مغسّله"؟؟؟ كان بورقيبة هو المثال الأكثر صفاء للسلوك "الولائي" في صيغته العلمانية الكاذبة (لأنها لم تكن علمانية بقدر ما كانت ممارسة سلطانية تتجمّع فيها مناقب الوليّ و صفات الزعيم )، و كان بن علي هو مثال فقدان "الكاريزما" الولائية مع الإصرار على التمسّك بصفاتها التمييزية( ولعلّ في انتقال مركز الاهتمام لديه من الثقافي التأصيلي إلى الاقتصادي الوظيفي ما ينبئ عن تلك الأزمة)..ولم تستطع 14 جانفي أن تُخرج الوعي السياسي"المعارض" من المنطق الولائي إلى منطق "السياسي"، بل إننا لا نشهد أكثر من عملية تنافس شرسة بين زوايا و طرق تتحدّث كلها عن "المواطن" في حين أنها لا تعني غير "المريد.
أ.عادل بن عبدالله