شهد المشهد الثقافيّ في بلادنا خلال الآونة الأخيرة جملة من الأحداث لم تقف عند حد الاعتداء على المخرج التونسيّ النوري بوزيد ولا اقتصرت على فتاوى التكفير والزندقة التي شملت عددا من المبدعين والمفكّرين مثل الشاعر منصف الوهايبي أو الأستاذة رجاء بن سلامة، بل تجاوزت ذلك إلى التخريب والتهشيم مثلما حدث في فضاء سينما "أفريكا"، في ظلّ واقع مأزوم صار الاستفزاز من أبرز سماته وأضحى تبادل التُهم واحتكار الحقائق من هذا الطرف أو ذاك علامتَه الواضحة. من هذا المنطلق سعينا إلى محاورة نخبة من الكتاب والمبدعين لاستقراء المشهد الثقافي بعد الثورة والإطلالة على مختلف المواقف والرؤى إزاء ما يحدث اليوم.
1- ألا ترون أنّ سياسة القمع التي كانت مكرسة طيلة عقود من الزمان ذُوبت فيها الفوارق وامّحت حدود الاختلاف، هي التي جعلت الصراع الثقافيّ اليوم قائما على احتكار الحقيقة وإقصاء المغاير؟
- الكاتب محمّد الجابلّي (رابطة الكتاب الأحرار):
سياسة القمع لم تذوب الاختلاف، لأنه قائم بالضرورة لكنه مكبوت، سياسة القمع أرجأته في نفوس أصحابه وكلـّما طال الزمن تضخم في الذوات إلى حد القطيعة غير المعلنة، ثم إنّ الدكتاتورية تفرّخ دكتاتوريات، ذلك أنّ المبدأ المعروف لكل دكتاتور هو وهم مصادرة الحقيقة وامتلاكها والادعاء بأحقية الوصاية على البلاد والعباد وحسم شؤونهم الخفية والبيّنة، وهذه الظاهرة معروفة في علم النفس فمن يختزن القمع يستعيده حين تحين الفرصة...ومن الطبيعي نفسيا واجتماعيا أن نواجه الآن دكتاتوريات متعددة تتصارع على بدائل ممكنة للدكتاتور الأوحد لأنّ من نشأ في ظل الأحادية والقمع لا يمكن أن يكون ديمقراطيا بين عشية وضحاها...حين يرقى التنافس إلى الصراع عندها ندرك أننا نعاني إعاقة ليس من السهل تجاوزها لأن الديمقراطية هي عقلية تنشأ عن تضحية ومعايشة لم تتحققا في شرطنا ...
ومن أكبر مخاطر الدكتاتورية هي إرثها، أعني إفراغ العقول من كل تجاور وتحاور وشحنها وفق انضباطية الاصطفاف خلف قدر مرئي مفروض ومرفوض، وعند غياب ذلك الاصطفاف واختفاء الحدود ستسيطر أنانيات فردية تحت هاجس الزعامة أو القدرة عليها وفئوية وإيديولوجية بمعنى امتلاك الحقيقة...
ولقد وصفتم الصراع بأنه ثقافي من أجل امتلاك الحقيقة لكنه سياسي بامتياز، وهذا هو الفارق بين الثقافة ببعدها النقدي الشمولي القابل للاختلاف والسياسة ببعدها الفئوي الغارق في الحدود، بين شمولية بأفق إنساني ومحدودية بتطلع آني ونفعي.....
- الأستاذ سامي براهم (جامعيّ مختصّ في الحضارة العربيّة الإسلاميّة)
الاستبداد السياسي يخرّب الثّقافة من خلال سياسة الاحتواء و التّدمير، الاحتواء بالإغراء يفرغ المبدع من الطّاقة على الإبداع الحرّ الذي يعبّر عن وجدانه و ضميره و ضمير مجتمعه و التّدمير يجهز على استعداداته الطبيعيّة و المكتسبة لمراكمة شروط التطوّر و التجدّد و التّمايز الخلاق مّا يؤثّر في ذات المبدع مثقفا كان أو فنانا في احترامه لنفسه و إبداعه و غيره ... كلّ ذلك يخلق كائنات مشوّهة مرتهنة إلى الوثوقيّات و الإقصاء و الصّراع المحموم و التّنافي فالكلّ يتربّص بالكلّ و الجميع مستلب إلى هويّة الذّات المهدّدة. لعلّ هذا ما يفسّر انفجار المكبوت الذّاتي الهووي " نسبة إلى الهويّة " في غياب من كان يمسك بخيوط اللعبة و يشتغل على الموازنة بين الفاعلين حتى لا تخرج الحلقة المفرغة من سيطرته.
- الدكتور محمّد حاج سالم (مختصّ في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا)
لسياسة الكبت الفكري دور بلا شكّ في احتقان المشهد الثقافي كما نعايشه راهنا، ولكن الحديث عن سياسة ثقافيّة في حدّ ذاتها دون وصلها بالسياسة العامّة للنّظام السابق مدعاة إلى حصر المسألة في بعد أحادي هو الصّراع على مواقع ثقافيّة، وهذا من شأنه النّظر إلى الثقافة وكأنّها بنية مستقلّة عن حواملها الاجتماعيّة الاقتصاديّة. وما أراه شخصيّا أنّ ما تصفونه بالصّراع على المواقع الثقافيّة لا يعدو سوى تعبيرة عن صراع اجتماعي اقتصادي بين فئات اجتماعيّة احتكرت المجال العمومي برمّته بما فيه المجال الثقافي حفاظا على مصالح طبقيّة لا فائدة في تفصيلها وفئات اجتماعيّة أخرى عانت التهميش والإقصاء من قبل المهيمنين اقتصاديّا وثقافيّا، ولعمري أنّ هذا هو الوجه الخفي للثورة التونسية، وهو وجه لم يبد لنا صفحته بعد إلاّ في لبوس ثقافي لا يعدم توظيفا سياسويّا في انتظار تجلّيه في قالب مطالب اجتماعيّة اقتصاديّة هي الآن بصدد التبلور.
- الأستاذ البحري العرفاوي (شاعر وكاتب في جريدة الفجر)
سنكون سعداء جدا لو كنا بصدد صراع ثقافي لما له من أثر إيجابي على البلاد وعلى الفكر والمعارف ولكننا للأسف بصدد تهريج ولغط وإثارة زوابع يمارسه نفر من الملحقين سياسيا وثقافيا أولئك العاجزون عن خوض الحوارات الجدية يلجأون إلى المناحات السياسية والعويل الإيديولوجي يشوشون ويشوهون ويحرضون على الفوضى ...مع الأسف نحن في تونس لسنا بصدد صراع ثقافي.
2- هناك من يعتبر الصراع الثقافي الذي تشهده تونس اليوم حقيقة ثابتةلا يمكن إغفالُها ولا تجاوزها طالما أننا إزاء أنموذجين ثقافيين أحدهما حداثيّ مبنيّ على مقولات الفرد وشعارُه "الشاذ لا يحفظ ولا يقاس عليه" والآخر قائم على ثقافةالجموع وهويّة الشعب ومقدساته وشعارُه "الشاذ يحفظ ولا يُقاس عليه". في ظلّ هذا الواقع ماهي الحلول الممكنة حتى لا يتحول الصراع إلى عنف؟
- الأستاذ سامي براهم:
نحتاج للجواب على هذا السّؤال إلى دقّة تشخيص الوضع الثقافي في بلادنا و لذا نرى أنّ سبب الصّراع الثقافي لا يتعلّق حسب فهمنا بنموذجين يختلفان من حيث المرجعيّة و المفردات و الجهاز الرّمزي بل بارتهان عموم المثقفين لنفس الخلفيات الذّهنيّة و البناء النفسي الوجداني على اختلاف المرجعيات إذ لكلّ هويّة منغرسة في ثقافة جموع محليين أو خارجيين و لكلّ مقدّسات و وثوقيّات ودغمائيات ... نحن لا نعيش صراعا بين ممكن و مقدّس كما يشاع بل صراعا عنيفا مرشحا لمزيد من العنف الرّمزي و المادّي بين قداسات لكلّ قداسة مرجعيتها و مركزيّتها و نزوعها الكليانيّ التّمامي.
-الكاتب محمّد الجابلّي
أنا لا أرى صراعا ثقافيا، بقدر ما أرى فئات تتدافع على استحقاق سياسي لم تتأهل له، فلا ترى خلافا حول البرامج والرؤى لأنها مختزلة ومتناسخة بل ترى صراعا على الظهور وتحفزا دعائيا بأدوات قديمة ...
فهاجس الاستحقاق السياسي في غياب الجدل والمشاريع والاختلاف يأخذ منحى استفزازيا بين الأقطاب...ففي المستوى الثقافي العام هناك صراع لم نخضه وهو صراع فكري لا خطر فيه يدخل ضمن دائرة الاختلاف بمعنى الثراء بين الفئات والطبقات والتعبيرات الاجتماعية...جدل خلاق فيه تعدد وتثاقف ينحو منحى الإيجاب لكن عندما ينسحب الفكر وعندما يتزعم السياسي ريادة الشارع بمصالحه الآنية يتحول الجدل إلى صراع، ومن الصراع ما يتجه بالضرورة إلى العنف والإقصاء بحديه قصد التعبئة المغلوطة...تلك التي تغيّب جوهر القضايا في صالح سطحية تــَــرْكَبُ الإيديوجيا والدين لتبرير وجودها...
الجدل الفكرى عنوان ثراء وتعدد وهو من الثقافة لكن الصراع العنيف هو عنوان إفلاس وهو من السياسة...
كل الشعوب لها هوية وجذور ومقدسات، ويمكن لكل ذلك أن يكون في وئام نسبي مع ما يسمى بالحداثة إذا لم تتحرك يد السياسي لشحن الاختلاف ليكون تناقضا…وأنت ترى أن التعصب ليس حكرا على ديانة دون أخرى بل هو حكر على الفئات التي ترى وضعها مضطهدا فتركب موجة الدين أو المذهب لتبرر حراكها الواقعي…وتنزلق بفعل التعصب إلى امتلاك الحقيقة كوهم انفعالي يندمج مع وجودها اليومي…فكلما زاد التخلف زاد معه التعصب وكذا الظلم والإقصاء…
الحلول الممكنة تكمن في الثقافة التي تربي الأذهان على النسبية والاختلاف، وربما من أهم معضلاتنا أنّنا نغيب الثقافي ونهتف للسياسي، نغيب العقل ونركب الانفعال لأن العقل لا يمكن أن يحكم الواقع ما لم يصبح الواقع في حد ذاته معقولا بحسب المقولة الهيجلية، فأي واقع هذا الذي عاش بمقولة الحزب الواحد ثم تشظى في زمن قصير إلى أكثر من مائة حزب ؟
ما ننتظر من هذا الإسهال غير الغرق في اللاسياسي، بمعنى فقدان الثقة في التعبيرات السياسية بما هي ديناميكية ممكنات الفعل في الواقع؟ ألا ترى أن الانتهازية أو الصناديق المنتظرة وحّدت الخطاب بين اليمين واليسار فأصبح السياسي تاجر كلام يقول ما يريده الشارع لا ما يؤمن به فعلا؟؟؟
هل أن كثرة الأحزاب دليل صحة أم دليل مرض بهذا المعنى؟؟؟ أحزاب بلا مشاريع ثقافيّة أو هي تسير ضمن المبهم العام تتلمس سبيل الوجود في الزحام وتتغزل بالشارع ومنطقه المصلحي؟؟؟
-الدكتور محمّد حاج سالم:
أوّلا: ما من صراع إلاّ وهو عنف بالضرورة. ثانيا: لا أوافق على هذا التقسيم بين أنموذجين أحدهما حداثي يعتمد الفردانيّة والآخر تقليدي يعتمد الهويّة الجماعيّة، فهذه الرؤية المثنويّة من شأنها الفصل الحادّ بين مجتمعين تحت سقف وطن واحد، وهذا ما لا يراه إلاّ القائلون بالماهويّات الثقافيّة المجرّدة عن حواملها الاجتماعيّة الاقتصاديّة، فكم من عائلة يتعايش فيها المتديّن مع غير المتديّن، وكم من عائلة لا ترى في الاحتفاء بالحياة ما يتعارض مع ضوابط الدين والعرف. ما أراه شخصيّا أنّ الفردانيّة وإن بدت في الظاهر هي السائدة في سلوكياتنا اليوميّة وعلى مستوى بينة الأسرة النوويّة التي سادت، فإنّ العائلة الممتدّة هي السائدة على مستوى التصوّرات وهي تظهر في الملمّات والأزمات متجاوزة بنية العائلة النوويّة، وهذا أحد الأبعاد التي يتوّجب دراستها لفهم عدّة ظواهر تضغط بثقلها على الواقع الثقافي لبلادنا لعلّ أقربها إلى الأذهان ظواهر العروشيّة والأحزاب العائليّة والتكتلات الاقتصاديّة الجهويّة وما يتولّد عنها من صراعات تجد تعبيرتها القصوى على مستوى الثقافة ككلّ وعلى مستوى السياسة بشكل أخصّ.
3- هل ان انتماء الخطاب إلى حيز الفن باعتباره خطابا جماليا كفيل بإعفائه من أي حدّ وإن كان المقدس نفسه، أم انّ الحدّ جوهر الفنّ به يلوذ بالإيحاء ويحتمي من الوقوع في المباشر الفج؟
-الدكتور محمّد حاج سالم:
وهذا الرّأي أيضا يقود إلى النّظر إلى الفنّ وكأنّه بنية مستقلّة عن حواملها الاجتماعيّة الاقتصاديّة. فما من خطاب إلاّ وهو إنساني بالضرورة، وما من إنسان إلاّ ومنتم لجماعة عليه احترام الضوابط الناظمة لحسن اشتغالها، ومن هنا فما من خطاب إلاّ وهو تصعيد للمسألة الاجتماعيّة وهو مقبول ما لم يتصادم مع الضوابط الاجتماعيّة حتّى وإن كان في جوهره تجاوزا لمتطلبّات الواقع. فالخطاب الفني اختزال للواقع ضمن إرادة تجاوزه، وهو بهذا منفصل ومتّصل في آن مع واقعه، وهذا ما يضمن تبنّيه من قبل الجماعة المعبّر عن آمالها وآلامها وتطلّعاتها.
-الأستاذ سامي براهم:
الفنّ مثل أيّ نشاط بشري له علاقة بالتقبل، و المتقبلون أصناف و فئات و قطاعات و انتماءات ذات مواقع و مرجعيات متنوعة... و لا يمكن للفنّ باعتباره رسالة message أن يكون بمعزل عن التّأثير و التأثّر. و الأصل أن يكون الفنان معبّرا عن ضميره و عمق وجدانه و وعيه الذّاتي فلا رقابة عليه إلا من داخله. لكن الفنّ كذلك نشاط اجتماعي يوجّه رسائل و يضخ قيما و مضامين داخل المجتمع تتفاعل مع ذوق الناس و وعيهم و كلما حاول المبدع بذكائه العاطفي و الفني أن يوازن بين نبض ذاته التائقة للانعتاق من كل قيد و نبض المجموعة و انتظاراتها كلما كان أداؤه ناجحا و هي موازنة فنيّة لا تقوم على التوفيق و التلفيق و التّرميق bricolage و لا على التسويات المخلّة بجوهر العملية الإبداعية التي تتجلى فيها الذات في أعمق فرديّتها بل على المخاتلة الجماليّة الفنية من خلال تقنيات المجاز و التكنية و الانزياح و العدول و الإدهاش و الإرباك الفنّي و العصف الذّهني والخطاب الذي يخرج المتقبّل من حالة التّسليم الوثوقي الدّغمائي لمعتقداته إلى حالة القلق الوجودي و الحيرة الذّهنيّة التي تدفع للتأمّل و للتفكير و النقد و الحلم و إعادة بناء الذّات بعيدا عن المباشراتية الفجّة ذات النزعة الدّعويّة التبشيريّة الرّساليّة pastoral .
.و مع ذلك يمكن للفنان الذي اختار أن يستعمل الفنّ في المباشر اليومي ليقدّم بيانات manifestes ودروسا ونشاطا يخدم حزبا أو مجموعة ذات مصالح أن يحوّله إلى سلوك قابل للمساءلة القانونيّة و الرّقابة و المنع والاحتجاج و الرّفض و كلّ ذلك لا يستهدف الفني فيه لضعفه و ضموره وغلبة المباشر النفعي عليه بل لمضامينه التي تندرج ضمن ضوابط النشر والتوزيع و تسويق الخطاب السياسي .
-الكاتب محمّد الجابلّي:
الفن جوهره الحرية وكل فن هو حيرة واستباق وثورة على كل سائد مألوف، وكل تعبير فني أصيل هو مشروع ومغامرة في ذات صاحبها لحظة الخلق منها السؤال والتجاوز والثورة على الحدود …
وكل فن أصيل يرتبط بلحظة تاريخية وحضارية بكل أعماقها ويختزل منه زاوية النظر الأعمق للوجود والأشياء، وانتماؤه للحظة يجعله وفيا بشكل تلقائي لشروطها غير المعلنة وربما من تلك الشروط تكون الحدود الخفية والتي لا يدركها إلا الفنان الأصيل أعني بها الاندماج في الأعمق والأجمل إنسانيا… وهنا نخرج من فن إلى فن، أو نفرق بين فن سطحي يركب الإثارة وقد يصل إلى الاستفزاز وفن يقود المتلقي الى ما يريد بعمق وامتلاء …الفن يقتله الوضوح ومغامرة الفن الكبرى ترتبط بالجديد شكلا ومضمونا، ضمن أبعاد الإيحاء والتلميح والإشارة تلك التي تهز الأعماق وتوحد بين المختلف الإنساني لعمقها وثرائها، ولنا في أعمال خالدة خير مثال كرسالة الغفران والكوميديا الإلهية وحديثا الإخوة الأعداء…
الفن العميق لا يستفز السطح المختلف بقدر ما يستفز العمق الموحّد حول الإنسان والمصير والشرط الإنساني والمسؤولية بحدها الوجودي والوجداني…
4-هناك من يعتبر ما حدث في قاعة"أفريكا" لا يعود إلى الفلم أو إلى عنوانه وإن كان استفزازيا وإنما يعود إلى الإطار الذي عرض فيه وهو جمعية "لمّ الشمل" وهو اسم يوحي بالبحث عن المشترك بين المبدعين على اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم في حين يشير اسم التظاهرة "هز يديك على مبدعينا" إلى مسلّمة جاهزة سلفا وهي أن الإبداع مطوّق بأغلال ليست سوى الأسلاميين وعلينا تحريرُه من أسرهم. وفي الحالتين التظاهرة قائمة على مصادرة واتهام قبل العرض نفسه؟
-الدكتور محمّد حاج سالم:
لمّ شمل من ؟ شمل المبدعين ؟ ألا يوجد مبدعون بين الإسلاميّين ؟ ما يقلقني حقّا في شعار "هزّ يديك على مبدعينا" هو نون الجماعة المحيلة ضمنا على نزعة إقصائيّة تسيّج الآخر المختلف/المخالف خارج أسوار ذات متوهمّة، وهذا ما يكشف عنه الفيلم ذاته. فالفيلم أراد أن يكون وثائقيّا، لكنّه لم يقدّم سوى شهادات منتقاة أو لنقل شهادات منتمين إلى تلك "النّون" الإقصائيّة، وهي ما يوقعنا في أسْر لا يقلّ شراسة عن أسْر الأصوليّة الدينيّة، فهل مقدور علينا الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ؟
- الأستاذ سامي براهم:
جماعة لمّ الشّمل صرّحوا أنّهم غير معنيين بلمّ شمل جميع التّونسيين بل بلمّ شمل الدّيمقراطيين منهم دون الظلاميين و أعداء الحريّة. شمل قائم على الاصطفاف والفرز و الإقصاء القائم على أحكام مسبقة.
لقد اختارت مخرجة الفلم خطابا حربيا قبل عرض فلمها فحددت خصومها الذين تستهدفهم بفلمها و حكمت عليهم باستهدافها مسبقا و تقمصت دور الضحيّة بشكل فجّ مباشر خال من كلّ روح فنيّة و أعلنت أنّها ستخوض معهم المعركة الأخيرة معركة الحريّة من أجل الوجود المهدّد و هو خطاب كما وسمته صاحبته نفسها وقح culotté ينتمي للفلكلور السياسي لبعض من احترفوا استدرار عطف و أموال جمعيات و دوائر رسمية غربيّة و لو على حساب الحقيقة و كرامة مواطنيهم ..
لقد اختارت المخرجة أن تحرّف شعار لا إلاه لا سيّد ni dieu ni maître ــ و هو شعار فوضويّ لا يقصد منه مصادرة حقّ الناس في الإيمان بإلاله بقدر ما يعني عدم توظيف الإيمان بالإله لمصادرة حقّ النّاس و حريّتهم مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين في التفكير و التعبير ــ بشعار لا الله لا سيدي، مّا يعني استهدافها لتمثّل من تمثلات الإله و هو التمثّل الإسلامي على وجه الحصر دون غيره من التمثلات المسيحيّة أو اليهوديّة أو البوذيّة أو غيرها فحيّدت كلّ الآلهة من دائرة الرّفض من خلال الانزياح بصيغة التعميم الفوضويّة إلى صيغة التخصيص الإسلاميّة ممّا زاد في المباشراتية و أعطى لعنوان الفلم طابع الشعبويّة السياسيّة و التعرّي الايديولوجي hexhibition و لذلك انتهجت نهجا كفاحيا و تقمّصت دور الفنان الطليعي avant-gardiste أو الكاميكاز الثقافي لكن كلّ ذلك في مواجهة مواطنين لا ذنب لهم سوى أنّهم لم يتلقوا الحظّ الكافي من التثقيف و التكوين الذي يمكن من الحسّ النقدي و التربية على الحقوق و الحصانة النفسية و المعرفية بل و تركوا وحدهم يواجهون اختبار التدفق المعلوماتي و الانفجار الفضائي في غياب نخبتهم التي كانت تتنافس لترعى شؤونها مع عدم التوقّف عن التشهير بأبناء شعبها من أصحاب اللحى و الحجاب مستنصرة عليهم بسلطة الدّولة و مستغيثة بضمير العالم الحرّ و هو ما وقع غداة عرض الفلم من استصراخ من طرف ممثل لم الشمل في جلسة من جلسات مجلس الاتحاد الأروبي.
لقد اختارت المخرجة أن تحرّف شعار لا إلاه لا سيّد ni dieu ni maître ــ و هو شعار فوضويّ لا يقصد منه مصادرة حقّ الناس في الإيمان بإلاله بقدر ما يعني عدم توظيف الإيمان بالإله لمصادرة حقّ النّاس و حريّتهم مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين في التفكير و التعبير ــ بشعار لا الله لا سيدي، مّا يعني استهدافها لتمثّل من تمثلات الإله و هو التمثّل الإسلامي على وجه الحصر دون غيره من التمثلات المسيحيّة أو اليهوديّة أو البوذيّة أو غيرها فحيّدت كلّ الآلهة من دائرة الرّفض من خلال الانزياح بصيغة التعميم الفوضويّة إلى صيغة التخصيص الإسلاميّة ممّا زاد في المباشراتية و أعطى لعنوان الفلم طابع الشعبويّة السياسيّة و التعرّي الايديولوجي hexhibition و لذلك انتهجت نهجا كفاحيا و تقمّصت دور الفنان الطليعي avant-gardiste أو الكاميكاز الثقافي لكن كلّ ذلك في مواجهة مواطنين لا ذنب لهم سوى أنّهم لم يتلقوا الحظّ الكافي من التثقيف و التكوين الذي يمكن من الحسّ النقدي و التربية على الحقوق و الحصانة النفسية و المعرفية بل و تركوا وحدهم يواجهون اختبار التدفق المعلوماتي و الانفجار الفضائي في غياب نخبتهم التي كانت تتنافس لترعى شؤونها مع عدم التوقّف عن التشهير بأبناء شعبها من أصحاب اللحى و الحجاب مستنصرة عليهم بسلطة الدّولة و مستغيثة بضمير العالم الحرّ و هو ما وقع غداة عرض الفلم من استصراخ من طرف ممثل لم الشمل في جلسة من جلسات مجلس الاتحاد الأروبي.
و هو ما يعكس حالة الانسحاب من الوطن و مشاغله.
-الدكتور شكري المبخوت: (أستاذ تعليم عال وباحث في اللغة العربية وآدابها):
لم يكن للمبدعين الحداثيّين دائما القدرة الكافية إبداعيّا والكفاءة العالية فنّيّا ليذهبوا إلى الآخر السميّ ويستضيفوه في فضاء أسئلتهم ويحتضنوه في قولهم وصورتهم وصوتهم.ولكنّ هذا لا يعدو أن يكون وجها من وجوه الضعف الإبداعيّ وليس بالضرورة موقفا عدائيّا من سميّ مختلف يعيش بينهم.ولا أذكر هنا الاستثناءات: معاداةً للآخر ونفيا له ،وقد يكون منه شريط نادية الفاني ،أو احتضانا له وتفهّما لجوهر مأزقه – مأزقنا. فبعيدا عن محاكمة النوايا والبحث عن المقاصد علينا مرّة أخرى مساءلة الإبداع الفنيّ نفسه.
ولهذا تحدّثنا عن الحاجة إلى السلب الجذريّ أي العمل الفنيّ والثقافيّ الذي يربك النظام السائد ويزرع فيه بذرة الفوضى ضمن صيرورة نقديّة لا تتوقّف.ولا وجه لذلك إلا بالنقد المزدوج ،على حدّ تعبير عبد الكبير الخطيبي،حسب سياقنا العربي الإسلاميّ لمنظومات القيم والأفكار والتصوّرات الموروثة وفي الآن نفسه لمنظومات الثقافة المشهديّة ( على ما يحمل عليه غي ديبور الكلمة) والثقافة العولميّة الكاسحة.وهو نقد ضروريّ تاريخيّا وسياسيّا في تقديرنا ولا يمكن أن يكون بأسلحة سلفيّة بل بأسلحة من جنس ثقافة الاغتراب والاستيلاب نفسها بعد تحويلها وإعادة صياغتها وتنقيتها من زيفها وأكاذيبها واستراتيجيّة التلاعب بالعقول والوجدان التي تنبني عليها .
وما شهدناه في سينما أفريكا آرت هو بوجه من الوجوه صرخة بدائيّة متوحّشة أمام نتاج لثقافة تبدو أعلق بالعصر وتقنياته ولكنّها ثقافة غريبة غربةً مركّبةً:في سياقها التقني المشهدي وفي سياقها الإيديولوجي السائد.لذلك نحتاج حقّا إلى نقد مزدوج للبؤس السلفيّ العاجز عن قول الآن وهنا إلاّ بلغة مستعارة من غياهب التاريخ وللبؤس الحداثيّ العاجز عن الذهاب إلى الإنسانيّ العميق لدى هؤلاء المقموعين المردّدين للقوالب المكرورة تكبيرا أو تكفيرا.
-الكاتب محمّد الجابلّي:
نعم هذا هو الأخطر في كل الموضوع، التوظيف المزدوج للفن، بين الاستبعاد والوصاية، وكلاهما من السياسة وليس من الثقافة…
لا أحد ينكر أنّ الفن المتحرر نشأ في أحضان الليبرالية وكان مدعوما بالفكر النقدي لليسار الذي كان يتمظهر من خلال الفن …أقول ذلك لأني أعتقد أنّ اليسار في تونس هو ظاهرة ثقافية وليس ظاهرة سياسية، بمعنى أنّ اليسار نشأ من خلال الفكر النقدي، ما جعله فاعلا في الوعي وعاجزا عن الفعل في الواقع، وهذا اليسار يسعى إلى التمظهر من خلال التعبيرات الفنية ويخلط بين النوعية والسطحية، ويدمج بين ماهو ليبرالي قد لا يلائم الواقع وبين ماهو فني حقا ضمن نقد الواقع والارتقاء بالمفاهيم…
ولعبة التداخل بين الليبرالي واليساري تدخل الفن ضمن لعبة الاستحقاق السياسي، ومن هذه اللعبة يدخل الطرف الآخر وأعني به "الإسلاميين" …لعبة ادعاء الوصاية على الفن والذوق والوعي يقابلها في الطرف الآخر ادعاء الوصاية على الواقع والأخلاق والقيم العامة…
ولا بد من التفريق بين الإسلام العقائدي الدعوي والإسلام الثقافي الحضاري المشترك والإسلام السياسي…وهذا الأخير هو الذي يتجاوز حده بحكم تفعيل أدوات صراع وتوظيفها لصالحه وهي ليست له بل تدخل ضمن المشترك العقائدي والثقافي ومن هنا نتحول من الثقافة إلى السياسة، ومن الجدل الى الصراع ومن الاختلاف إلى الاستفزاز ومن آليات الديمقراطية إلى أدوات الاستبداد…
لو كنا ضمن العقلية الديمقراطية لكان الأمر مختلفا، من ساءه الفيلم كان يمكن أن يحاربه بسبل أخرى عديدة كأن يعري ما فيه من سطحية أو كأن يقدم مذكرة قصد مقاضاته …
لكن يبدو أنّ هناك من له مصلحة في إثارة فتنة وهو بعيد عن الطرفين المتصارعين بل يوظفهما في توقيت معين لخدمة غايات قد يفضحها القادم من الأيام أو الشهور…
هناك أولويات عدة نتغافل عنها لنخوض صراعا آخر لا موقع له الآن، حوّلنا جدل الأيام الخوالي إلى الواقع بفعل الفراغ السياسي، جدل المقولات الكبرى في الدين والتاريخ والهوية والانتماء جدل الأفكار وهو جدل معروف في الجامعات لحظة احتداد الوعي وهو مشروع في منطق الفكر لكن دخوله للشارع أو إقحامه في الشارع هو من فعل السياسي بمخاتلاته الخفية…
5-إلى أي مدى يمكن اعتبار الصراع الثقافي السائد اليوم صراعا داخليا في ظل تلويح بعضهم بالتمويل الخارجي لأطراف في المشهد الثقافي في إطار عالمي يروم إعادة تشكيل الخارطة الثقافية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر للحد من فكر التطرف والمتطرفين؟
-الدكتور محمّد حاج سالم:
وجود تمويل خارجي لأطراف في المشهد الثقافي التونسي أمر لا يختلف فيه اثنان ، وإلاّ في أيّ إطار يمكننا وضع ما يسمّى بالتّعاون الثقافي وهو لا يمسّ كما يعلم القاصي والداني إلاّ أعمالا ومنشورات ذات لون إيديولوجي بعينه ؟ أظنّ أنّ الوقت قد حان لمراجعة سياسة التعاون الثقافي مع بعض الأطراف الخارجيّة منعا لـ"المال الثقافي" على غرار محاولات منع سبل تدفّق "المال السياسي" قطعا لأيّ تدخّل أجنبي في سياستنا الثقافيّة ( أو ثقافتنا السياسيّة، فهما في نهاية المطاف وجهان لعملة واحدة): فما دَاخَلَ المال أمرا إلاّ وأفسده !
- الكاتب محمّد الجابلّي:
- أذكّر مرة ثانية باعتراضي على التوصيف فهو صراع سياسي بأدوات ثقافية، ففي تاريخنا العربي الإسلامي وفي فتراته المزهرة نجد تعايشا بين المذاهب والملل والنحل بل تعايشا بين الإيمان والإلحاد، فأهل السياسة ولأغراض متقاطعة يوظفون المشاعر العامة لخدمة غاياتهم وفي التاريخ لم يذبح الإبداع إلا عن طريق السياسة وليس عن طريق الاختلاف ويورد الطبري حوارا طريفا بين ملحد شهير وفقيه جليل نسوقه للاعتبار:
" اجتمع بن الراوندي مع أبي علي الجبائي يوما على جسر بغداد فقال له:
– يا أبا علي: ألا تسمع شيئا عن معارضتي للقرآن ونقضي له ؟
- فقال له : أنا أعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك ولكن أحاكمك إلى نفسك فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة وتشاكلا وتلازما ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته ؟
- قال: لا والله
- قال الجبائي : قد كفيتني فانصرف حيث شئت "
ومن هذا المثل أخلص للجواب على سؤالك ف الغرب يتدخل في شؤوننا بشكل فاضح وأهوج لا يدل عن عمق معرفة بالحاصل والعميق في حضارتنا، إنّه يدعي محاربة التطرف لكنه يصنعه ويعلبه عن قصد نفعي تارة وعن جهل تارة أخرى...وكل مظاهر التطرف نشأت في أحضان دكتاتوريات مدعومة من الغرب، في المستوى المحلي وبحروب ومظالم فجرها الغرب في المستوى العالمي...
وحرب التطرف في اعتقادي هي قضية داخلية تدخل ضمن استيعاب حضاري لمقتضيات الحداثة ضمن عقد تلقائي يرعى الخصوصية الثقافية والدينية والعرقية تلك الخصوصيات التي لا تمثل إعاقة في ظل عقلية الاختلاف بقدر ما تمثل ثراءً وعمقا...
أما الحاصل الآن فهو مدخول برياح شتى، ويجب أن نخرج أشياء كثيرة من هيمنة التدافع السياسي الآني وأن ننظر إليها من منظور الثقافي الأعمق والأكثر زمانية بمعنى الامتداد والشمول...
هذا الملف نشر في مجلة التلفزة التونسة